معركة مؤتة:
هذه المعركة أكبر لقاء مثخن، وأعظم حرب دامية خاضها المسلمون في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وهي مقدمة وتمهيد لفتوح بلدان النصارى، وقعت في جمادي الأولى سنة 8هـ، وفق أغسطس أو سبتمبر سنة 629م.
ومؤتة (بالضم فالسكون) هي قرية بأدنى بلقاء الشام، بينها وبين بيت المقدس مرحلتان.
سبب المعركة:
وسبب هذه المعركة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى عظيم بصري. فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر فأوثقه رباطاً، ثم قدمه، فضرب عنقه.
وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب، فاشتد ذلك على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين نقلت إليه الأخبار، فجهز إليهم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب.
أمراء الجيش ووصية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إليهم:
أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على هذا البعث زيد بن حارثة، وقال: إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد اللَّه بن رواحة. وعقد لهم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة.
وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام فإن أجابوا وإلا استعانوا باللَّه عليهم، وقاتلوهم، وقال لهم اغزوا باسم اللَّه في سبيل اللَّه من كفر باللَّه، لا تغدروا، ولا تغيروا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بناء.
توديع الجيش الإسلامي وبكاء عبد اللَّه بن رواحة:
ولما تهيأ الجيش الإسلامي للخروج حضر الناس، ودعوا أمراء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وسلموا عليهم، وحينئذ بكى أحد أمراء الجيش، عبد اللَّه بن رواحة، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: أما و اللَّه ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم ولكني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب اللَّه يذكر فيها النار {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود؟ فقال المسلمون صحبكم اللَّه بالسلامة، ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين غانمين، فقال عبد اللَّه بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات قرع تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبد
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد اللَّه من غاز، وقد رشدا
ثم خرج القوم، وخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مشيعاً لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف وودعهم.
تحرك الجيش الإسلامي، ومباغتته حالة رهيبة:
وتحرك الجيش الإسلامي في اتجاه الشمال حتى نزل معان، من أرض الشام، مما يلي الحجاز الشمالي. وحينئذ نقلت إليهم الاستخبارات بأن هرقل نازل بمآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلى مائة ألف.
المجلس الاستشاري بمعان:
لم يكن المسلمون أدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم، الذي بوغتوا به في هذه الأرض البعيدة وهل يهجم جيش صغير، قوامه ثلاثة آلاف مقاتل فحسب، على جيش كبير عرمرم، مثل البحر الخضم، قوامه مائتا ألف مقاتل؟ حار المسلمون، وأقاموا في معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وينظرون ويتشاورون ثم قالوا: نكتب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له.
ولكن عبد اللَّه بن رواحة عارض هذا الرأي، وشجع الناس، قائلاً يا قوم و اللَّه إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة. وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا اللَّه به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة. وأخيراً استقر الرأي على ما دعا إليه عبد اللَّه بن رواحة.
الجيش الإسلامي يتحرك نحو العدو:
وحينئذ بعد أن قضى الجيش الإسلامي ليلتين في معان، تحركوا إلى أرض العدو، حتى لقيتهم جموع هرقل بقرية من قرى البلقاء يقال لها "مشارف" ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فعسكروا هناك، وتعبأوا للقتال، فجعلوا على ميمنتهم قطبة بن قتادة العذري، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري.
بداية القتال، وتناوب القواد:
وهناك في مؤتة التقى الفريقان، وبدأ القتال المرير، ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل. معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، ولكن إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب.
أخذ الراية زيد بن حارثة حب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وجعل يقاتل بضراوة بالغة، وبسالة لا يوجد لها نظير إلا في أمثاله من أبطال الإسلام، فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القوم، وخر صريعاً.
وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وطفق يقاتل قتالاً منقطع النظير، حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها، ثم قاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، ولم يزل بها حتى قطعت شماله، فاحتضنها بعضديه، فلم يزل رافعاً إياها حتى قتل. يقال: إن رومياً ضربه ضربة قطعته نصفين، وأثابه اللَّه بجناحيه جناحين في الجنة، يطير بهما حيث يشاء، ولذلك سمي بجعفر الطيار، وبجعفر ذي الجناحين.
روى البخاري عن نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة، ليس منها شيء في دبره، يعني ظهره.
وفي رواية أخرى قال ابن عمر كنت فيهم تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية. وفي رواية العمري عن نافع زيادة فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده.
ولما قتل جعفر بعد القتال بمثل هذه الضراوة والبسالة أخذ الراية عبد اللَّه بن رواحة، وتقدم بها.، وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد حتى حاد حيدة ثم قال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه كارهة أو لتطاوعنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة مالي أراك تكرهين الجنه
ثم نزل، فأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نهسة، ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل.
الراية إلى سيف من سيوف اللَّه:
وحينئذ تقدم رجل من بني عجلان اسمه ثابت بن أرقم فأخذ الراية وقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية قاتل قتالاً مريراً، فقد روى البخاري عن خالد بن الوليد قال: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية. وفي لفظ آخر لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية.
وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم مؤتة: مخبراً بالوحى، قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال - أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان حتى أخذ الراية سيف من سيوف اللَّه، حتى فتح اللَّه عليهم.
نهاية المعركة:
ومع الشجاعة البالغة والبسالة والضرواة المريرتين كان مستغرباً جداً أن ينجح هذا الجيش الصغير في الصمود أمام تيارات ذلك البحر الغطمطم من جيوش الروم. ففي ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد مهارته ونبوغه في تخليص المسلمين مما ورطوا أنفسهم فيه.
واختلفت الروايات كثيراً فيما آل إليه أمر هذه المعركة أخيراً. ويظهر بعد النظر في جميع الروايات أن خالد بن الوليد نجح في الصمود أمام جيش الرومان طول النهار، في أول يوم من القتال. وكان يشعر بمسيس الحاجة إلى مكيدة حربية تلقي الرعب في قلوب الرومان حتى ينجح في الانحياز بالمسلمين من غير أن يقوم الرومان بحركات المطاردة. فقد كان يعرف جيداً أن الإفلات من براثنهم صعب جداً لو انكشف المسلمون، وقام الرومان بالمطاردة.
فلما أصبح اليوم الثاني غيّر أوضاع الجيش، وعبأه من جديد، فجعل مقدمته ساقه، وميمنته ميسرة، وعلى العكس، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم، وقالوا: جاءهم مدد، فرعبوا، وصار خالد بعد أن تراآى الجيشان، وتناوشا ساعة يتأخر بالمسلمين قليلاً قليلاً، مع حفظ نظام جيشه، ولم يتبعهم الرومان ظناً منهم أن المسلمين يخدعونهم، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء.
وهكذا انحاز العدو إلى بلاده، ولم يفكر في القيام بمطاردة المسلمين، ونجح المسلمون في الانحياز سالمين، حتى عادوا إلى المدينة.
قتلى الفريقين:
استشهد يومئذ من المسلمين اثنا عشر رجلاً، أما الرومان، فلم يُعرف عدد قتلاهم غير أن تفاصيل المعركة تدل على كثرتهم.
أثر المعركة:
وهذه المعركة وإن لم يحصل المسلمون بها على الثأر، الذي عانوا مرارتها لأجله لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين، إنها ألقت العرب كلها في الدهشة والحيرة، فقد كانت الرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، وكانت العرب تظن أن معنى جلادها هو القضاء على النفس وطلب الحتف بالظلف، فكان لقاء هذا الجيش الصغير ثلاثة آلاف مقاتل مع ذلك الجيش الضخم العرمرم الكبير مئتا ألف مقاتل ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسارة تذكر. كان كل ذلك من عجائب الدهر، وكان يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته، وأنهم مؤيدون ومنصورون من عند اللَّه، وأن صاحبهم رسول اللَّه حقاً. ولذلك نرى القبائل اللدودة التي كانت لا تزال تثور على المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام، فأسلمت بنو سليم وأشجع وغطفان وذبيان وفزارة وغيرها.
كانت هذه المعركة بداية اللقاء الدامي مع الرومان، فكانت توطئة وتمهيداً لفتوح البلدان الرومانية، واحتلال المسلمين الأراضي البعيدة النائية.
هذه المعركة أكبر لقاء مثخن، وأعظم حرب دامية خاضها المسلمون في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وهي مقدمة وتمهيد لفتوح بلدان النصارى، وقعت في جمادي الأولى سنة 8هـ، وفق أغسطس أو سبتمبر سنة 629م.
ومؤتة (بالضم فالسكون) هي قرية بأدنى بلقاء الشام، بينها وبين بيت المقدس مرحلتان.
سبب المعركة:
وسبب هذه المعركة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى عظيم بصري. فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر فأوثقه رباطاً، ثم قدمه، فضرب عنقه.
وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب، فاشتد ذلك على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين نقلت إليه الأخبار، فجهز إليهم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب.
أمراء الجيش ووصية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إليهم:
أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على هذا البعث زيد بن حارثة، وقال: إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد اللَّه بن رواحة. وعقد لهم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة.
وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام فإن أجابوا وإلا استعانوا باللَّه عليهم، وقاتلوهم، وقال لهم اغزوا باسم اللَّه في سبيل اللَّه من كفر باللَّه، لا تغدروا، ولا تغيروا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بناء.
توديع الجيش الإسلامي وبكاء عبد اللَّه بن رواحة:
ولما تهيأ الجيش الإسلامي للخروج حضر الناس، ودعوا أمراء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وسلموا عليهم، وحينئذ بكى أحد أمراء الجيش، عبد اللَّه بن رواحة، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: أما و اللَّه ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم ولكني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب اللَّه يذكر فيها النار {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود؟ فقال المسلمون صحبكم اللَّه بالسلامة، ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين غانمين، فقال عبد اللَّه بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات قرع تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبد
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد اللَّه من غاز، وقد رشدا
ثم خرج القوم، وخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مشيعاً لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف وودعهم.
تحرك الجيش الإسلامي، ومباغتته حالة رهيبة:
وتحرك الجيش الإسلامي في اتجاه الشمال حتى نزل معان، من أرض الشام، مما يلي الحجاز الشمالي. وحينئذ نقلت إليهم الاستخبارات بأن هرقل نازل بمآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلى مائة ألف.
المجلس الاستشاري بمعان:
لم يكن المسلمون أدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم، الذي بوغتوا به في هذه الأرض البعيدة وهل يهجم جيش صغير، قوامه ثلاثة آلاف مقاتل فحسب، على جيش كبير عرمرم، مثل البحر الخضم، قوامه مائتا ألف مقاتل؟ حار المسلمون، وأقاموا في معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وينظرون ويتشاورون ثم قالوا: نكتب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له.
ولكن عبد اللَّه بن رواحة عارض هذا الرأي، وشجع الناس، قائلاً يا قوم و اللَّه إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة. وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا اللَّه به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة. وأخيراً استقر الرأي على ما دعا إليه عبد اللَّه بن رواحة.
الجيش الإسلامي يتحرك نحو العدو:
وحينئذ بعد أن قضى الجيش الإسلامي ليلتين في معان، تحركوا إلى أرض العدو، حتى لقيتهم جموع هرقل بقرية من قرى البلقاء يقال لها "مشارف" ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فعسكروا هناك، وتعبأوا للقتال، فجعلوا على ميمنتهم قطبة بن قتادة العذري، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري.
بداية القتال، وتناوب القواد:
وهناك في مؤتة التقى الفريقان، وبدأ القتال المرير، ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل. معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، ولكن إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب.
أخذ الراية زيد بن حارثة حب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وجعل يقاتل بضراوة بالغة، وبسالة لا يوجد لها نظير إلا في أمثاله من أبطال الإسلام، فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القوم، وخر صريعاً.
وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وطفق يقاتل قتالاً منقطع النظير، حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها، ثم قاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، ولم يزل بها حتى قطعت شماله، فاحتضنها بعضديه، فلم يزل رافعاً إياها حتى قتل. يقال: إن رومياً ضربه ضربة قطعته نصفين، وأثابه اللَّه بجناحيه جناحين في الجنة، يطير بهما حيث يشاء، ولذلك سمي بجعفر الطيار، وبجعفر ذي الجناحين.
روى البخاري عن نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة، ليس منها شيء في دبره، يعني ظهره.
وفي رواية أخرى قال ابن عمر كنت فيهم تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية. وفي رواية العمري عن نافع زيادة فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده.
ولما قتل جعفر بعد القتال بمثل هذه الضراوة والبسالة أخذ الراية عبد اللَّه بن رواحة، وتقدم بها.، وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد حتى حاد حيدة ثم قال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه كارهة أو لتطاوعنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة مالي أراك تكرهين الجنه
ثم نزل، فأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نهسة، ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل.
الراية إلى سيف من سيوف اللَّه:
وحينئذ تقدم رجل من بني عجلان اسمه ثابت بن أرقم فأخذ الراية وقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية قاتل قتالاً مريراً، فقد روى البخاري عن خالد بن الوليد قال: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية. وفي لفظ آخر لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية.
وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم مؤتة: مخبراً بالوحى، قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال - أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان حتى أخذ الراية سيف من سيوف اللَّه، حتى فتح اللَّه عليهم.
نهاية المعركة:
ومع الشجاعة البالغة والبسالة والضرواة المريرتين كان مستغرباً جداً أن ينجح هذا الجيش الصغير في الصمود أمام تيارات ذلك البحر الغطمطم من جيوش الروم. ففي ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد مهارته ونبوغه في تخليص المسلمين مما ورطوا أنفسهم فيه.
واختلفت الروايات كثيراً فيما آل إليه أمر هذه المعركة أخيراً. ويظهر بعد النظر في جميع الروايات أن خالد بن الوليد نجح في الصمود أمام جيش الرومان طول النهار، في أول يوم من القتال. وكان يشعر بمسيس الحاجة إلى مكيدة حربية تلقي الرعب في قلوب الرومان حتى ينجح في الانحياز بالمسلمين من غير أن يقوم الرومان بحركات المطاردة. فقد كان يعرف جيداً أن الإفلات من براثنهم صعب جداً لو انكشف المسلمون، وقام الرومان بالمطاردة.
فلما أصبح اليوم الثاني غيّر أوضاع الجيش، وعبأه من جديد، فجعل مقدمته ساقه، وميمنته ميسرة، وعلى العكس، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم، وقالوا: جاءهم مدد، فرعبوا، وصار خالد بعد أن تراآى الجيشان، وتناوشا ساعة يتأخر بالمسلمين قليلاً قليلاً، مع حفظ نظام جيشه، ولم يتبعهم الرومان ظناً منهم أن المسلمين يخدعونهم، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء.
وهكذا انحاز العدو إلى بلاده، ولم يفكر في القيام بمطاردة المسلمين، ونجح المسلمون في الانحياز سالمين، حتى عادوا إلى المدينة.
قتلى الفريقين:
استشهد يومئذ من المسلمين اثنا عشر رجلاً، أما الرومان، فلم يُعرف عدد قتلاهم غير أن تفاصيل المعركة تدل على كثرتهم.
أثر المعركة:
وهذه المعركة وإن لم يحصل المسلمون بها على الثأر، الذي عانوا مرارتها لأجله لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين، إنها ألقت العرب كلها في الدهشة والحيرة، فقد كانت الرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، وكانت العرب تظن أن معنى جلادها هو القضاء على النفس وطلب الحتف بالظلف، فكان لقاء هذا الجيش الصغير ثلاثة آلاف مقاتل مع ذلك الجيش الضخم العرمرم الكبير مئتا ألف مقاتل ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسارة تذكر. كان كل ذلك من عجائب الدهر، وكان يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته، وأنهم مؤيدون ومنصورون من عند اللَّه، وأن صاحبهم رسول اللَّه حقاً. ولذلك نرى القبائل اللدودة التي كانت لا تزال تثور على المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام، فأسلمت بنو سليم وأشجع وغطفان وذبيان وفزارة وغيرها.
كانت هذه المعركة بداية اللقاء الدامي مع الرومان، فكانت توطئة وتمهيداً لفتوح البلدان الرومانية، واحتلال المسلمين الأراضي البعيدة النائية.